عرق وشعر مهضوم

   قديماً كنت أسمع جدي، رحمه الله، يقول: الشعراء أكرم مخلوقات الله وأذكاها، ولم أكتشف ذكاء وكرم مخلوقات الله هذه إلا الأسبوع الماضي، عندما تلاعب بأعصابي أربعة شعراء مهجريين ومحبّ واحد للشعر، وكأنهم اتفقوا فيما بينهم على ترويضي شعرياً. فلقد جاؤوني بقنينات العرق التي وعدوني بها بطريقة لا يصدقها عقل.
   أول الداخلين الى مكتبي كان الشاعر جورج منصور وبيده قنينة عرق مكتوب عليها ردّة زجلية ما أن قرأتها حتى اكتشفت أنني ضحية مؤامرة شعرية حاك خيوطها عصام ملكي وجورج منصور وحنا الشالوحي وطوني حنا النسر وانضم اليهم صديق الشعراء الياس نخّول، والردة تقول:
قنينة ل عرقاتها بعدُن جداد
لو جيت يا شربل تحلّ رموزها
ما فيك تقشع صورة حباب البعاد
إلاّ بعد ما تطبها ع بوزها
   وقبل أن أطبّها على بوزها غادر جورج مكتبي ليدخله الصديق الياس نخّول وبيده قنينة عرق "مخمّسة وليست مثلثة" على حدّ قوله، مكتوب عليها أيضاً ردة زجلية تقول:
يا شربل دقّ الناقوس
ما زالو دينك ديني
نعمة تالوت القدّوس
باعتلك بالقنينه
فصحت بأعلى صوتي:
ـ حتّى أنت يا الياس؟
فما كان منه إلاّ أن باسني وقال:
ـ يحق للياس نخول ما لا يحقّ لغيره.
   وبعد ساعات فقط وصلتني من الشاعر طوني حنا النسر قنينة عرق ذات "وجهين ولسانين" كتب عليها هذه الردة النسراوية، التي ما زلت أغوص فيها لأفهم معانيها وبأي الأصابع يجب أن أبارك عرقاتها، قال، لا فض فوه:
يا شربلنا عا المكفول
باعت عرقات زماني
بإيدك أهلا وسهلا قول
وباركهم بالنصّاني
   وما أن انتهيت من قراءة الردة "النسراوية" حتى وصلتني قنينة عرق رابعة من الشاعر حنا الشالوحي، فلم أرَ من بعيد أية كتابة على القنينة، فشكرت الله على تعاطف صديقي حنّا معي، وعدم إحراجي أمام القراء، ولكني ما أن حملت القنينة حتى رأيت ورقة صغيرة مكتوب عليها:
عرقاتي كلّن ينسون
وكل الفضل لديّاتي
ان كنّو عنهم مش ممنون
بيطلع موّال خواتي
   وقبل أن يطلع موّال "خوات" حنا، طلع موّال "خواتي" أنا، فلقد أنهيت نهاري بزيارة مفاجئة خصّني بها الشاعر عصام ملكي، بدون موعد سابق، وكأنه يريد أن يفهمني أن اللعبة الشعرية لن تنتهي إلا إذا أنهاها هو، فما أن سلّم علي باليد اليمنى حتى ناولني باليد اليسرى قنينة عرق صنع "مالطا" مكتوب عليها ما يلي:
عرقات يا شربل بدون مراوغه
من "مالطي" بالفعل عا قلبي عزيز
انشمّيت ريحتهم بدون مبالغه
بلمح البصر بتصير تحكي "مالطيز"
وبدلاً من أن أتكلم "المالطيزية" أو أن أفرح بكل هذه القنينات التي وصلتني رحت أحلش بشعري وأردد:
كيف بدّي ردّ الأشعار
وقدّامي شعّار كبار
غمروني بقناني كتير
وقالولي: فتّح.. وسكار
   بعد هذا المقلب الشعري المفرح ألا تقولون قول جدي: ان الشعراء من أهضم وأكرم مخلوقات الله، فألف شكر يا شباب.. واجعلوها عادة.
**